فصل: تفسير الآيات (31- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (31- 40):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة. ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال: {حَدَائِقَ} بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة {وأعنابا} كروماً عطف على {حَدَائِقَ} {وَكَوَاعِبَ} نواهد {أَتْرَاباً} لدات مستويات في السن {وَكَأْساً دِهَاقاً} مملوءة.
{لاّ يسمعون فيها} في الجنة حال من ضمير خبر (إن) {لغواً} باطلاً {ولا كِذَّاباً} الكسائي: خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه {جزاءً} مصدر أي جزاهم جزاء {مّن رَّبِّكَ عطاءً} مصدر أو بدل من {جزاء} {حساباً} صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم {رّبِّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما الرّحمنِ} بجرهما: ابن عامر وعاصم بدلاً من {ربك} ومن رفعهما ف {رب} خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره {الرحمن} أو {الرحمن} صفته و{لا يملكون} خبر، أو هما خبران والضمير في {لا يملكونَ} لأهل السماوات والأرض، وفي {منه خطاباً} لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً {يومَ يقومُ} إن جعلته ظرفاً ل {لا يملكون} لا تقف على {خطاباً} وإن جعلته ظرفاً ل {لا يتكلمون} تقف {الرُّوحُ} جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه {والملائكة صَفَّاً} حال أي مصطفين {لاّ يتكلّمون} أي الخلائق ثم خوفاً من {إلاّ من أذن له الرَّحمانُ} في الكلام أو الشفاعة {وقال صواباً} حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة.
{ذلك اليوم الحقُّ} الثابت وقوعه {فمن شاءَ اتّخَذَ إلى ربّه مئاباً} مرجعاً بالعمل الصالح {إنّا أنذرناكم} أيها الكفار {عذاباً قريباً} في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ ينظُرُ المرءُ} الكافر لقوله: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} {ما قدّمت يداه} من الشر لقوله: {وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم} [الأنفال: 50-51]. وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام {وَيقولُ الكَافِرُ} وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير. و(ما) استفهامية منصوبة ب {قدمت} أي ينظر أي شيء قدمت يداه، أو موصولة منصوبة ب {ينظر} يقال: نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته {يا ليتني كنت تراباً} في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث. وقيل: يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً، فيود الكافر حاله. وقيل: الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين، والله أعلم.

.سورة النازعات:

ست وأربعون آية مكية.

.تفسير الآيات (1- 14):

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}
{والنّازعات غَرْقاً* والنّاشطاتِ نشطاً* والسّابحاتِ سبحاً* فالسّابقاتِ سبقاً* فالمدبّرات أمراً} لا وقف إلى هنا. ولزم هنا لأنه لو وصل لصار {يوم} ظرف {المدبرات} وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم. أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقاً أي إغراقاً في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم. أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه. أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، والتي تخرج من برج إلى برج والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب. وجواب القسم محذوف وهو (لتبعثن) لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.
{يوم تَرْجُفُ} تتحرك حركة شديدة والرجف شدة الحركة {الرَّاجِفَةُ} النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها {تَتْبَعُهَا} حال عن الراجفة {الرَّادِفَةُ} النفخة الثانية لأنها تردف الأولى وبينهما أربعون سنة، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم {قلوبٌ يومئذٍ} قلوب منكري البعث {وَاجِفَةٌ} مضطربة من الوجيب وهو الوجيف. وانتصاب {يوم ترجف} بما دل عليه {قلوب يومئذ واجفة} أي يوم ترجف وجفت القلوب، وارتفاع {قلوب} بالابتداء و{واجفة} صفتها {أبصارُها} أي أبصار أصحابها {خاشِعَةٌ} ذليلة لهول ما ترى حبرها {يقولونَ} أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث {أَءِنَّا لمردودون في الحافرةِ} استفهام بمعنى الإنكار أي أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا؟ والحافرة الحالة الأولى يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى. ويقال: النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى، وهي الصفقة أنكروا البعث. ثم زادوا استبعاداً فقالوا {أَءِذا كنا عظاماً نَّخِرَةً} بالية {ناخرة}: كوفي غير حفص. وفَعِلَ أبلغ من فاعل يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر. والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاماً بالية؟ و(إذا) منصوب بمحذوف وهو (نبعث) {قالوا} أي منكرو البعث {تِلْكَ} رجعتنا {إذاً كَرَّةٌ خاسرةٌ} رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهذا استهزاء منهم {فَإِنَّما هي زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل فإنها سهلة هينة في قدرته فما هي إلا صيحة واحدة يريد النفخة الثانية من قولهم: زجر البعير إذا صاح عليه {فإذا هم بالسَّاهِرةِ} فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتاً في جوفها. وقيل: الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس أو أرض مكة أو جهنم.

.تفسير الآيات (15- 46):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
{هل أتاك حديث موسى} استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به {إذ ناداه رَبُّهُ} حين ناداه {بالوَادِ المقَدَّسِ} المبارك المطهر {طوًى} اسمه {اذهب إلى فرعون} على إرادة القول: {إنَّهُ طغى} تجاوز الحد في الكفر والفساد.
{فقل هل لّك إلى أن تزكى} هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان. وبتشديد الزاي: حجازي {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ} وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه {فتخشى} لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] أي العلماء به. وعن بعض الحكماء: اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين. فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير، ومن آمن اجترأ على كل شر. ومنه الحديث: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44] {فأراه الآية الكبرى} أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة {فَكَذَّبَ} فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً {وعصى} الله تعالى: {ثمّ أدْبَرَ} تولى عن موسى {يسعى} يجتهد في مكايدته، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً {فَحَشَرَ} فجمع السحرة وجنده {فنادى} في المقام الذي اجتمعوا فيه معه {فقال أنا ربّكم الأعلى} لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها {فأخذه الله نكال الآخرة} عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم. ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق {والأولى} أي الإغراق، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي {أنا ربكم الأعلى} والأولى وهي {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون {إنّ في ذلك} المذكور {لَعِبْرَةً لّمن يخشى} الله.
{ءَأنتُمْ} يا منكري البعث {أشَدُّ خَلْقاً} أصعب خلقاً وإنشاء {أم السَّمَاءُ} مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً. ثم بين كيف خلقها فقال: {بناها} أي الله. ثم بين البناء فقال: {رَفَعَ سَمْكَهَا} أعلى سقفها. وقيل: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسواها} فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أظلمه {وأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أبرز ضوء شمسها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها {والأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا} بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام.
ثم فسر البسط فقال: {أَخْرَجَ منها مَاءَها} بتفجير العيون {ومَرْعَاهَا} كلأها ولذا لم يدخل العاطف على {أخرج} أو {أخرج} حال بإضمار (قد).
{والجبال أرساها} أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير {متاعاً لَّكُمَ ولأنعامِكُمْ} فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم {فإذا جاءتِ الطَّامَّةُ الكبرى} الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
{يوم يَتَذَكَّرُ الإنسانُ} بدل من {إذا جاءت} أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها {ما سعى} مصدرية أي سعيه أو موصولة {وبُرِّزَتِ الجحيم} وأظهرت {لمن يرى} لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً.
{فأمّا} جواب {فإذا} أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك {من طغى} جاوز الحد فكفر {وَءَاثَرَ الحَياةَ الدُّنْيَا} على الآخرة باتباع الشهوات {فإن الجَحِيمَ هِيَ المأوى} المرجع أي مأواه، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له {وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّهِ} أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه {ونهى النَّفْسَ} الأمارة بالسوء {عن الهوى} المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات. وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى ميل النفس إلى شهواتها {فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأوى} أي المرجع {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا} متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها {فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَآ} في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك: ليس فلان من العلم في شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
{إلى رَبِّكَ مُنتَهَاها} منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال. ثم قال: {أنت من ذكراها} أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها، ولا يبعد أن يوقف على هذا على {فيم} وقيل {فيم أنت من ذكراها} متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها. ثم استأنف فقال: {إلى ربك منتهاها} {إنّما أنت منذر من يخشاها} أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها. {منذر} منون: يزيد وعباس {كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أي الساعة {لم يَلْبَثُوا} في الدنيا {إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35] [يونس: 45] وقوله: {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} [الكهف: 19] [المؤمنون: 113] وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه، والله أعلم.

.سورة عبس:

.تفسير الآيات (1- 42):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
{عَبَسَ} كلح أي النبي صلى الله عليه وسلم {وَتَوَلَّى} أعرض {أن جَاءَهُ} لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له، والعامل فيه {عبس} أو تولى على اختلاف المذهبين {الأعمى} عبد الله بن أم مكتوم، وأم مكتوم أم أبيه، وأبوه شريح بن مالك، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعدها ويقول: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» واستخلفه على المدينة مرتين {وما يدريك} وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى {لعلّه يزكى} لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل. وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي، وكذا {أو يَذَّكَّرُ} يتعظ {فَتَنفَعَهُ} نصبه عاصم غير الأعشى جواباً ل (لعل) وغيره رفعه عطفاً على {يذكر} {الذكرى} ذكراك أي موعظتك أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك.
{أمّا مَنِ استغنى} أي من كان غنياً بالمال {فأَنتَ لَهُ تصدى} تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه {تصدى} بإدغام التاء في الصاد: حجازي {وما عليك ألاّ يزّكّى} وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ {وأمّا من جاءَكَ يسعى} يسرع في طلب الخير {وهو يخشى} الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان {فأنت عنه تلهّى} تتشاغل وأصله تتلهى. ورُوي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني. ورُوي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء. {كَلاَّ} ردع أي لا تعد إلى مثله {إنَّها} إن السورة أو الآيات {تذكرةٌ} موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها {فمن شاء ذكره} فمن شاء أن يذكره ذكره. أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه {في صُحُفٍ} صفة ل {تذكرة} أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف {مُّكَرَّمَةٍ} عند الله {مَّرْفُوعَةٍ} في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة {مُّطَهَّرَةٍ} عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى: {بأيدي سفرةٍ} كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح {كِرَامٍ} على الله أو عن المعاصي {بررةٍ} أتقياء جمع بار.
{قتل الإنسَانُ} لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة {ما أكْفَرَهُ} استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر، أو هو تعجب أي ما أشد كفره {مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ} من أي حقير خلقه! وهو استفهام ومعناه التقرير.
ثم بين ذلك الشيء فقال: {مِن نُّطفةٍ خلقه فَقَدَّرَهُ} على ما يشاء من خلقه.
{ثمّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} نصب السبيل بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر {ثمّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه {ثمّ إذا شاء أنشره} أحياه بعد موته {كَلاَّ} ردع للإنسان عن الكفر {لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان.
ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره {أَنَّا} بالفتح: كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام، وبالكسر على الاستئناف: غيرهم {صَبَبْنَا الماءَ صبًّا} يعني المطر من السحاب {ثمّ شققنا الأرض شقًّا} بالنبات {فأنبتنا فيها حبًّا} كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به {وعنباً} ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة {وَقَضْباً} رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة {وزيتوناً وَنَخْلاً وحدائِقَ} بساتين {غُلْباً} غلاظ الأشجار جمع غلباء {وفاكهةً} لكم {وأبًّا} مرعى لدوابكم {مَّتَاعاً} مصدر أي منفعة {لّكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصَّاخَّةُ} صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره {يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمِّهِ وأَبِيهِ} لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه {وصاحِبَتِهِ} وزوجته {وَبَنِيهِ} بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب. قيل: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح {لِكُلِّ امْرِئ مِّنهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ} في نفسه {يُغنِيهِ} يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره.
{وجوهٌ يومئذٍ مُّسْفِرَةٌ} مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون {ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ} غبار {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه {أولئك} أهل هذه الحالة {هُمُ الْكَفَرَةُ} في حقوق الله {الفَجَرَةُ} في حقوق العباد، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة، والله أعلم.